دراسات إسلامية

 

 

الإسلام والغرب

محاور التحدي وشروط المواجهة

 

 

 

بقلم : الدكتور ناول عبد الهادي

 

     الموضوع على جانب كبير من الأهمية والخطورة والشأن لتعلقه بإشكالية الإسلام العقدية، والفكرية والحضارية ، حالاً ومآلاً ، ومن هنا فإنه على الرغم مما أدير حوله من قول ، لايزال في رأينا، بحاجة إلى مزيد من البحث والدرس ، يتسنى بهما تسليط مزيد من الأضواء لاستجلاء مكامن الداء وتشخيصه أولاً ، ثم استكشاف الدواء واقتراح أساليب العلاج ثانيًا ، وبهذا وذاك يتحدد المسار وتتضح سبل السلام التي ليس من سواها يؤدي إلى البعث والنشور الحضاريين اللذين ننشدهما لأمتنا .

الإسلام الرؤية والفعل :

     بلور الإسلام من خلال القرآن والسنة ، تعاليم ومبادئ ، ومثلا وقيما ، تتعدد صورتها على المستويين ، الرؤية والفعل أما من حيث المستوى الأول فيمكن القول بأن أهم ما يميز هذه الرؤية أنها شاملة ، كلية للكون ، والحياة والانسان ، ليس لأي دين ولأية أيديولوجية ، ولأية فلسفة ، مثلها سعة أفق ، وعمق جوهر ، وواقعية هدف ، لقد قدَّم الرسول هذه الرؤية ، بالقرآن حيناً ، وبالسنة أخرى ، للإنسان حيثما كان موقعه في الزمان والمكان ، منظورًا متميزًا في الأخلاق والاجتماع ، ومنهجًا جديدًا في السياسة والحكم، وأسلوبًا مبتكرًا في المال والاقتصاد ، ينتظمها جميعًا خيطان من عدل وتقوى ، وأي شيء آخر كانت تنشده الإنسانية وتنشده ، يومها ، غير عدل يعصم الناس من نار الفتن ويقيهم شرورها ، يتفيأون ظله، يبدعون تحته لحضارة التوحيد وينشؤون ؟

     وأي شيء كان يعوز البشرية ، ويعوزها يومها، غير تقوى ترد عليها عافية افتقدها وجدانها، ووعيا عدمته ذاكرتها ، ورشادا تنكرت له خطاها؟ من ثم أبانت هذه الرؤية عن حقيقة هذا الدين في كونه معرفة فاعلة مؤثرة ، نقدية ، واعية ، يقاوم الباطل والخبيث ، ويدحض المفتريات ، ويمجد الحق والطيب . ولقد كانت هذه المعرفة هي التي صاغت تلكم النماذج الإنسانية السوية من حول رسول الله أمثال أبي بكر الصديق والفاروق عمر وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وغيرهم كثير من أفراد هذا الجيل العظيم الذي تلا عليه محمد آيات ربه ، وعلّمه الكتاب والحكمة ، وزكاه فوعى ، وأدرك ، وتمثل ، ثم انطلق ينفذ إرادة الله تعالى ويجسدها تنبض بالحياة ، وتختلج بالحركة في مجتمع الخير والعدل . أما على مستوى الممارسة فقد ترجم الرسول ، ومعه الذين اتبعوه، مقاصد هذا الدين الكبرى كما تبلورها رؤيته الشاملة الكلية ، إلى سلوك وفعل أكدا معا بكامل الجلاء والوضوح أن رسالة هذا الدين رسالة تغيير واستشراف. ولأنها كذلك فلم يكن هذا الدين طقوسا تأملية ، ولا رهبانية استغراقية ، ولا انعزالية هاربة ، حقا إنه قبل كل شيء عبادة ، لكنها عبادة من نوع خاص وفريد ، أهم ما يميزها، في متباين وجوهها ، أنها اجتماعية المحتوى، جماعية القصد .

     ومن هذا المفهوم العميق للعبادة اكتسب هذا الدين فعاليته ، وحركيته وأخلاقيته ، وبها جميعها كان يجهر بالحق ، ويتصدى للباطل لينجز وعد الله في قيام مجتمع لا أنانية فيه ، ولا استغلال ، ولا موسع في إفحاش ، ولا مضار في معاش ، وإذا كانت هذه المفهومات مما أضفى ويضفي على هذا الدين طابع الإيجابية والتطور والمستقبلية ، فإنها دالة على حرص هذا الدين على قيام ذلك المجتمع المثالي، مجتمع الأخلاق الذي يعتمد المساواة بين أفراده في الحقوق والواجبات ، منطلقاً لتحقيق العدل ، والكرامة والحرية، وهذه هي القيم التي دعا الإسلام الناس كافة إليها وألزمهم بها وآخذهم بالتفريط فيها ، وكان من ثم دينًا حضاريًا متميزًا . ولكي يقوم هذا المجتمع الواعي الهادي ، المسؤول كان لابد من تربية الفرد وإعداده على نحو فريد في التربية والاعداد ، من أجل ذلك جاءت منظومات المثل والقيم في هذا الدين لتتمحور، بالأساس على الإنسان ، ذاتاً وموضوعًا ، بوصفه (الخليفة) الذي كرم بالعقل ، ودعي باسم العقل إلى نبذ السكونية، والرهبانية والانعزالية ، والإقبال على ممارسة الحياة، وتعمير الأرض ، واستغلال الكون . ومن هنا ندرك السر فيما ألحت عليه مقولات هذا الدين وأطروحاته في شحذ الطاقات الفكرية والنفسية ، وتفجير المواهب العقلية والوجدانية في الإنسان، ليتسنى لها أن تبذر في سويداء قلبه الرغبة التي لا تكل ولاتفتر في الحركة الهادية ، والسعي الملتزم إلى إخضاع ما تحفل به الحياة ، فردية وجماعية ، من ارتباطات وأحداث ، لمنطق الكون المتوافق المنسجم ومن خلال تلك الحركة الهادية ، والسعي الملتزم تتحقق وتتألق أمام عينه ، رسالة الإسلام التغييرية ، الاستشرافية ..

     تلكم هي صورة الإسلام على مستوى الرؤية والفعل ، لا ريب أنها بقدر ماشحذت وتشحذ نفوس المؤمنين ، حتى يكونوا أدلة هداة ، أثارت وتثير المخاوف في نفوس أئمة الكفر وأتباعهم ، وهي المخاوف التي عبر عنها غلادستون رئيس الوزارة البريطانية عام 1882 حين وقف في مجلس العموم البريطاني، وقد أمسك بيده نسخة من المصحف يقول لهم : (إنه مادام هذا القرآن في أيدي المسلمين فلن يقر لنا قرار في تلك البلاد ولا أن تكون أوروبا في أمان) . كما عبر عنها بن جريون حين قال «إننا لانخشى القوميات والاشتراكيات والديمقراطيات في المنطقة ، ولكن ما نخشاه هو الإسلام ذلك المارد الذي نام طويلا ثم أخذ يستيقظ من جديد» ومن هنا كانت المواجهة بين الإسلام وبين القوى المضادة له قد تأججت منذ اليوم الذي ارتضى فيه الله سبحانه وتعالى الإسلام دينا للبشرية، يوحي بتعاليمه ومبادئه إلى أنبيائه ورسله من لدن إبراهيم عليه السلام إلى محمد بن عبد الله ، وستظل هذه المواجهة متأججة ، مستعرة إلى يوم الدين ، لأنها في الجوهر، مواجهة بين الحق والباطل وبين الاستواء والاكباب .

الغرب : الثقافة والحضارة :

     لسنا نريد بالغرب هنا ، منطقة بعينها على وجه الأرض ، ولا نقصد به نظاما بالذات في السياسة والاقتصاد والاجتماع ، إنما الذي نعنيه بالغرب بصرف النظر عن هذا وذاك ، تصورا أفرزته ثقافة ذات خصائص مميزة ، وبلورته حضارة ذات خصائص مميزة هي الأخرى ، أما الثقافة فهي تزعم كما يتحدث المفكر رجاء غارودي ، وهو الذي كان قد رضع – قبل أن يهديه الله تعالى للإسلام – لبنها ، وسبر غورها أن الحياة مقصورة على الضرورة والمصادفة كما يقول واحد من علماء حياتها ، وعلى الشهوة العابثة كما يكتب واحد من فلا سفتها ، وعلى العبث ، فقد ان المفسر – كما يعلن واحد من روائييها ، وعلى موت الاله ، وموت الإنسان ، وموت كل شيء . كما يردد على مسامعنا الأنبياء المزيفون لهذه العدمية «عقيدة العدم» وتقوم هذه الثقافة كما يعقب غارودي نفسه بعد ذلك ، على أربعة مبادئ هي :

     1- الفصل بين العلم والحكمة ، أي بين الوسائل والغايات .

     2- إخضاع كل واقعة إلى التصور والقياس، فينتفي بذلك الجمال والحب ، والايمان والمعنى.

     3- الفردية التي تجعل من الأفراد أو الجماعات مركزًا ومقياساً لكل شيء وتجعل من «نظام» توازنا مؤقتا (قلقا) بين الأطماع لهؤلاء وهؤلاء .

     4- إنكار التعالي ، مما لايمكن معه التخلص من هذه الانحرافات ، والقناعة بحتميات تنمية ذات طابع كمي محض ، تنفي الابداع ، والحرية والأمل. هذه المبادئ الأربعة هي التي قادت الغربيين (خلال خمسة قرون في طريق مسدودة ، غير نافذة ، ولو ثابرنا على السير في الطريق نفسها فلا ريب أنها ستؤدي بنا إلى الانتحار الكامل) . ومن المسلم به أن أية أمة من الأمم لابد أن تكون وراء سلوكها .

     وممارستها وموقفها ثقافة – بأوسع معاني الثقافة ودلالتها تجري منها مجرى الدم ، وهكذا فإن ثقافة الجشع والأنانية تهب أصحابها منطق النهب والاستغلال مثلما تمنح ثقافة الحقد والكراهية عقلية العدوان والتسلط ، وتصوغ ثقافة الايمان والاستعلاء روح التضحية والاستشهاد ، ومن هنا كانت مسؤولية الثقافة عما تفرزه من معلومات ومهارات ومنجزات تؤلف فيما بينها ما يصطلح على تسميته بـ (الحضارة) التي قد تفسر في كثير من الأحيان ، مثلما هو الشأن بالنسبة لحضارة الغرب «الفصل بين المادي والمعنوي من العناصر التي تؤلف نسيجها ، وحقا انه لا سبيل إلى إنكار ما حققه الغرب بفضل تقدمه العلمي من مبتكرات ومخترعات بدت بها هذه الحضارة براقة ، خلابه ، تسحر أعين الناس وتستحوذ على ألبابهم ، غير أننا عند التأمل في التطبيق الغربي بمبتكرات حضارته ومخترعاته سرعان ما تكشف أنه ، أي الغرب (فصل بين العلم والحكمة ، أي بين الوسائل والغايات ، فكان المحرك الأساسي لتنمية العلوم والتقنيات في الحضارة الغربية هو إرادة القوة والربح سواء كانت هذه الإرادة إرادة الأفراد أم الجماعات أم الأمم ، العلوم والتقنيات هدفها في الغرب إشباع الحاجات التي يشترك فيها الحيوان والإنسان الغذاء . الكساء المأوى ، الدفاع ، الهجوم) . ولعل هذا هو ما يعلل رواج (صناعات) جديدة في كنف هذه الحضارة ورعايتها ، ففضلا عن الصناعات التي ازدهرت بها الحياة الاقتصادية في الغرب منذ القرن الماضي فإن ثمة اليوم جديدا من الصناعات لا يدخر أصحابه جهدا في النهوض به ، وترقيته ، والدعاية له ، وهذه الصناعات متعددة مثل صناعة الجنس ، وصناعة المخدر ، وصناعة الإرهاب ، وشأنها شأن غيرها من صناعات الفولاذ والحديد والبترول تقوم على استغلال الإنسان واستنزاف قواه بهدف الربح والربح وحده ، ومن الحق أن نقول : بأنه منذ أن بدأت تلك الصناعات تغزو مجتمعات الغرب بدأت الكتابات تتوالى ، نضاحة بالمرارة ، حول الانهيار الخلقي المرعب الذي بات يتهدد الغرب في وجوده الاجتماعي ، والاقتصادي ، والحضاري ، وقد تضادت الآراء واختلفت وجهات النظر في تحديد أسباب ذلك الانهيار، وكان غير واحد من الكتاب ينتهي بعد الدرس ، والتحليل إلى وضع اليد على سبب هام ورئيسي فيما أصاب ويصيب ، أول النهار وآخره ، صرح الأخلاق من تداع وانهيار، ولم يكن ذلك السبب سوى (الإيمان) الذي نضب معينه في الفكر، وخمدت جذوته في الوجدان ، فأصاب النفس ، من جراء ذلك ، ترويع وتشريد فقد معهما الإنسان في ظل حضارة الاستهلاك والربح قدرته على التمييز بين الصالح والطالح ، لأنه، أو بالأخرى ، لأن ثقافته ، وهي التي أثمرت حضارته ، لم تلحم بين العلم والإيمان في إيجابية يمتزج فيها المادي بالروحي تضع الكسب المعرفي في إغناء قدرات الإنسان الفاعلة في تعمير الكون وتسخيره تلكم هي صورة الغرب من خلال ثقاته وحضارته لا فرق فيها بين وجهها الليبرالي أو وجهها الشيوعي وهي صورة على سلبياتها وتردياتها ، لا تعدم جوانب من الفعاليات العلمية، والتكنولوجية للمسلمين أن يفيدوا منها في إطار تصورهم الإيماني للعلم ، وهم يتأهبون للبعث الحضاري .

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان – شوال 1426هـ = سبتمبر – نوفمبر 2005م ، العـدد : 8–10 ، السنـة : 29.